مكائد عريان السيد خلف

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
07/02/2014 06:00 AM
GMT




 
قبض على الشاعر عريان السيد خلف
في العشرين من مايس 1979 أو حوالي ذلك التاريخ،
 ودفعوا به الى زنزانتنا الصامتة بعد فتح الباب،
 ومن حسن الحظ ان الباب يُفتح بثلاث "طقات"
لذلك كنا نضع الأعصبة على العيون من حركة المفتاح الاولى في القفل،
 ونتحول الى متحف لتماثيل الشمع
 كما كان يسخر كفاح الجواهري ابن الشاعر.

قُبض على عريان ببدلة الاورزدي باك التاريخية الشهيرة الموحدة،
 المكونة من بنطال وقميص موحدين ومن لون واحد،
 ومع ان الذاكرة لا تحتفظ بالالوان،
 لكني أتخيل انها رمادية.

لم التق بعريان السيد خلف من قبل أبدا،
 لكن ذلك السجين وبعد غلق الباب،
 وفتح الاعصبة،
 كان يلوح لي كنسر في قفص في تلك البدلة البابوية التي تتنافر مع هذا المكان ومع الثياب الممزقة،
 والوجوه المدماة.

ومن المحتمل انه يسمع حركة حوله لكنه لا يعرف " الزبائن" الصامتين الذين يسمع همساتهم وتنفسهم وربما يسمع اصواتهم الخافتة،
 لكن هل هذه مشرحة؟ هل رموه في جب؟ في قبر؟ مكان للموتى؟

 والسجين الجديد المرصود منا في حيرة من أمره بعد أن هددوه بعدم رفع العصابة عن العينين،
 وهو تهديد عام.

لكن السجين المحنط ببدلة الاورزدي المتكيء على الباب
 صار يطرق على الباب بقوة،
 وعند حركة القفل الاولى، عدنا أصناماً في متحف، من البروفسور صفاء الحافظ وصباح الدرة ومن اطباء ومحامين وصحافيين وعمال ومستقلين وشيوعيين والى اصحاب فنادق امتلأت فنادقهم بالفارين من مدن بعيدة.

فتح الحارس الباب وهو يعوي شاتما:
 " من يطرق الباب؟"
قال السجين الجديد" خوية سمعتهم ينادون باسمي"
زمجر الحرس غاضبا" شسمك؟"
بهدوء شاعري كمن يلقي قصيدة حيث ان السجين الجديد قبض عليه في بار على الأغلب قال:
 " اسمي عريان السيد خلف"
رد الحرس شاتما" انجب ما حد يناديك".

وكان هذا كل ما يريده عريان السيد خلف ولم يعرف الحرس المغفل ان السجين الجديد عرّف نفسه لنا لكي لا يقتل تحت التعذيب ولا يعرف مصيره.

لكن مكافأة عريان السيد خلف لنا هي في علبة السجائر التي لا نعرف كيف احتفظ بها وهي من نوع سومر ابو الاصبع الذهبي الطويل الذي يكوي القلب كما كان سمير الحلوائي شقيق جاسم يردد ساخرا وهو نداف في شارع 52 قرب الجامعة التكنلوجية.

كان عريان قبل القبض عليه قد نشر قصيدة في جريدة "طريق الشعب" تحت هواجس الحملة على الحزب والحركة الوطنية بعنوان" الشجرة الخاوية"،
 لا تخرج عن سياق التعبئة بان الشجرة القوية تصمد والشجرة الخاوية تطيح.

لكن عالم القراصات الكهربائية والفلقة والتعليق على المراوح،
 وأدوات التعذيب المستوردة من الدول الاشتراكية والديمقراطية والرأسمالية والتقدمية،
 لا تعترف بمنطق الشاعر النظيف والأسير.

كان يجلس الى جانبي من اليسار سمير الحلوائي وقد ربطتنا هوية جديدة
 غير السياسة،
 انا خارج التنظيم،
 وسمير شخصية عفوية جذابة ساخرة،
 وهويتنا الجديدة أن نقوم بغسل التواليت يوميا ثم مسحه بثيابنا وارتداء الثياب نفسها بعد الغسل.

أما الجالس على يميني هو الصديق علي شمة النعماني المهندس والشيوعي الملتزم،
 وكنت في ليلة القبض عليّ ــــ بعد اعتراف من شيوعي منظم خبأته في المنزل تحت التعذيب ـــــ أجلس مع النعماني في بار سرجون وقد تشاجرنا شجارا حادا حول زيارة النائب ــــ قبل ان يصبح رئيسا ـــــ الى كوبا،
 وكان علي شمة موقنا " ان الرفيق كاسترو سيقنع النائب بوقف الحملة"

وكنت اقول له بعناد" هذه الحملة لن يوقفها أحد أبدا"
مع شتائم لم توفر أحدا من النائب الى من تحالف معه،
 وكان يصرخ في وجهي" انت يساري متطرف ولا نفع فيك"
وكنت اقول " شوف علي رغم ذلك ستجمعنا زنزانة واحدة يوما".

وفي الليلة نفسها جمعتنا زنزانة واحدة ومن أمكنة مختلفة،
 لكني كنت مرعوبا من احتمال ان يعترف النعماني على موقفي في بار سرجون
 الذي وصفه بالتطرف،
 فماذا اذن سيفسره رجال الأمن بغير الخيانة العظمى؟

 لكن الاقدار او المصادفات منقذة احيانا اكثر من كل الحيل:

اخذوا النعماني في نوبة تعذيب طويلة،
 واعادوه شبه جثة لكنه فقد النطق نهائيا
 وأصيب بالخرس وخرج من السجن،
 ولم التق به الا في ايران ــــ في الأحواز ـــــ عام 1989
ومنه عرفت انه ظل وقتا طويلا فاقد النطق.

قلت، ضاحكا:
 " هذا من حسن الحظ. الم أقل لك ستجمعنا زنزانة واحدة؟"
لكنني لا أعرف ماذا حل بشاعر الشجرة الخاوية
 بعد أن اخذوه من الغرفة.

مكان عريان جاء رجل بشماغ وعقال وهو يصيح طوال الوقت:
 " خوية أريد فندقي"

يبدو انه صاحب فندق في منطقة العلاوي تكدس الشيوعيون من الناصرية في فندقه من باب المعرفة والقرابة بعد حملة اعتقالات في المدن،
 وكان يردد لوحده من دون أن يعرف شيئا عن غرفة تماثيل الشمع:
 " استغربت من كثرة الزبائن،
 لا هو موسم زيارة لا هي مظاهرة،
 ظهر انهم كفرة وزنادقة والعياذ بالله".

كنت لا أعرف كم مر من الايام أو الدهور،
 لكنني كنت أريد أن أعرف شيئا واحداً:
ماذا كان يعني الدكتور صفاء الحافظ:
 " خلف جدار الزنزانة حديقة؟"